تاريخ الاهوار والاهمية الاقتصادية
تقول الحكمة المكتوبة بالخط المسماري على لوح طين سومري: "حيث ما تغمر المياه الأرض ينمو الخير وتخرج أجنحة السعادة إلى الوجود". هبة من الله أن تغمر أرض الرافدين المياه وتنفرد بوجود ذلك العالم الساحر الجميل والغريب (الأهوار) .
وعلى مر العصور انقسمت منطقة الاهوار الهائلة الى مناطق ذات فيضانات فصلية والى مناطق اهوار شبه دائمة تغذيها تفرعات دجلة والفرات والى منطقة وسطى من مستنقعات. ورغم وقوع منطقة الاهوار بين النهرين لكنها اكثر انخفاضا منهما.
يذكر الدكتور مصطفى سليم في اطروحته: ان كثير من القبائل البدوية التي هاجرت من الجزيرة العربية أبان الجفاف الذي كان يصيب الجزيرة لسنوات اتخذت من الاهوار ملجأ ووسيلة للعيش.
ان منطقة الاهوار التي اتخذها الزنج في ثورتهم في ايلول عام 869م واتخذها لاحقا غيرهم قواعد وتحصينات لجيوشهم كانت لفترة طويلة محط انظار الصحفيين والكتاب والمصورين لاجراء التحقيقات والدراسات عن الحياة الغريبة على سطح المياه وسط سيقان البردي وعيدان القصب العملاق في المياه والحيوانات غير الداجنة كالخنازير القاتلة.
ان الانسان في هذه المناطق استطاع افتراش مسطح الماء باكواخ من القصب سابحة تعلو وتنخفض تحوم حولها الكثير من الطيور الجميلة المهاجرة. وكل كوخ عبارة عن جزيرة قائمة وتبنى هذه الاكواخ بوضع حزم من القصب وتكديسها بعضها فوق بعض ثم تملأ الفراغات فيما بينها بمختلف الحشائش والنباتات حتى يرتفع مستواها عن مستوى سطح الماء.
الاهوار أو البطائح
هي مساحات واسعة من الاراضي المنخفضة المغمورة بالمياه الراكدة والمستنقعات تقع بين واسط والبصرة قرب مجرى نهري دجلة والفرات وقد حدثت البطائح من جراء فيضان نهري دجلة والفرات وطغيانهما طغيانا هائلا في آن واحد في العصور القديمة مما ادى الى هدم السدود ونسف مشاريع الارواء وتحويل مجرى النهرين عن مسارهما الاصلي الى مسارات جديدة تبطحت في الاراضي المنخفضة وبذلك تحولت الاراضي الشاسعة التي تمتد من الكوفة وواسط الى البصرة الى اهوار ومستنقعات عرفت باسم البطائح.
ويحدد المسعودي (ت346هـ) مساحتها بخمسين فرسخا (مائة ميل) طولا وعرضها مثل ذلك. فيما قدرها شاكر مصطفى سليم بعشرين الف كيلو متر مربع اما داود سلوم فقدرها بـ(93) الف كيلو متر مربع.
يقول الدكتور احمد سوسة: انه حدث في عهد الملك نورا دادا ملك لارسا (1865-1850) قبل الميلاد فيضان عات خارق للعادة يعد اشد الفيضانات التي شهدتها البلاد في تلك الازمان فادى الى غرق منطقة سومر الجنوبية باسرها وتحويل مجرى نهر الفرات الى فرع بابل وشمل الفيضان نهر دجلة الذي تحول مجراه الاصلي باتجاه بلدة العمارة الى جهة الغراف وهكذا صار دجلة والفرات يلتقيان في اور فتجري مياهمها الموحدة من هناك مارة بمدينة الزبير الحالية ثم تتصل بخور عبدالله في جدول مدخل جزيرة بوبيان وذلك بعد ان كان نهر دجلة يصب في الخليج العربي على انفراد.
ان رأي احمد سوسة يخالف ما ذهب اليه البلاذري (ت 279هـ) وياقوت (ت 626هـ) من ان البطائح حدثت في العهد الساساني المتأخر وانها حلت محل ارض عامرة وقرى متصلة. دائرة المعارف الاسلامية تشير الى ان هذه البطائح قد اتسعت اتساعا كبيرا في القرون الاخيرة من الحكم الساساني بسبب حدوث فيضانات شديدة اكتسحت امامها السدود، يضاف الى ذلك اهمال شأن هذه السدود وعدم المبادرة في اصلاحها ففي عام 9 هـ زاد الفرات ودجلة زيادة عظيمة لم ير مثلها وانبثقت بثوق كثيرة في مواضع من النهرين حتى غلب ماؤها واغرق كثيرا من الاراضي العامرة بالزراعة حين وصول المسلمين الاوائل الى العراق فاتحين فكانت الحروب مع الفرس مدعاة وعدم الالتفات الى شدة تدفق المياه وتغلبها على النواحي فدخلها الناس بالسفن فرأوا فيها مواضع عالية لم يصل اليها الماء فبنوا فوقها قرى وسكنها قوم وزرعوها بالرز.. وتحصن بها قوم خارجون عن السلطة واصبحت تلك المناطق غير خاضعة لنفوذ السلطان منذ العهد البويهي على العراق.
اعتمد السومريون في زراعتهم البطائحية على تجفيف الاهوار قبل التوسع في الزراعة بعد احتكاكهم بالاكديين الذين ادخلوا الى العراق الحضارة النهرية القائمة على الزراعة التي تعتمد على الري الدائم وهي الحضارة التي اسسها العرب في جزيرتهم قبل نزوحهم منها كما يذكر ذلك احمد سوسة.
يقول المؤرخ المعروف جواد علي: تدل آثار السدود والنواظم التي ترجع الى ما قبل الاسلام على ان العرب كان لهم علم واسع بتنظيم امور الارواء والافادة من مياه الامطار والسيول والانهار وكذلك انواع الابار والسدود والمسالك. وعلى الزراعة المعتمدة على تجفيف الاهوار سار خلفاء بني امية وقد اعطت نتائج كبيرة من محصول الارز فضلا عن قصب السكر. ويشير صاحب كتاب نبذة من كتاب الخراج وصنعة الكتابة: انه لما ولى عبدالله بن دراج خراج العراق استخرج من ارض البطائح ما بلغت غلته خمسة الاف الف درهم فشجع ذلك خلفاء بني امية فاستمروا باحياء البطائح واستصلاحها حتى ان اهل البصرة الاوائل كما يذكر صاحب كتاب (البصرة ذات الوشاحين) اعتمدوا منذ ايام تأسيسها على ماء البطيحة، فقد كان ماؤها اعذب من ماء دجلة وكان ماء البطيحة يصل اطراف البصرة الذي يزداد في اوقات الفيضان فيذهب الماء الى المزارع فينصرف الى البطيحة.
سكان الاهوار
يقول مؤلف كتاب قصبة في مهب الريح: كانت الاهوار تمتد بعيدا الى الشمال حينما نزح المهاجرون الى الشرق قبل اكثر من خمسة الاف سنة ليستوطنوا هذه المناطق ولعبت عوامل اخرى كثيرة دورها خلال العصور المظلمة فضلا عن الغزوات المتعاقبة للميديين والفرس والرومانيين والاغريقيين في ادخال دماء اجنبية الى سكان الاهوار الذين يعيشون في مساحات واسعة من المياه في اكواخ القصب قائمة على جزر عائمة في المياه.
اما شاكر مصطفى سليم فيقول: انه يبدو معقولا ان نعتقد ان قسما من سكان الاهوار تحدروا من اصول بابلية سومرية تعرضوا لكثير من الاختلاط الذي تسبب عن الهجرات او التزاوج مع الايرانيين في القسم الشرقي من منطقة الاهوار ومع بدو الجزيرة العربية في القسم الغربي والقسم الاخر لجأ الى الاهوار جماعات وعشائر من ايران والجزيرة العربية، ويسجل حسن الخياط (جغرافية اهوار العراق) تميز انسان الاهوار بنمط اقتصادي واجتماعي وحضاري معين فنباتاته وحيواناته متميزة وليست في العالـم العربي وخـارجـه اقاليـم كثيرة مماثلة له.
ابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز (رض) يقول: كان سكان الاهوار وهم خليط من النبط سكان العراق الاصليين والزنج والزط والاساورة والسيابجة فضلا عن العشائر العربية المستوطنة يمدون سكان البصرة بالرز والسمك وقصب السكر ورغم ذلك كانوا يعيشون في فقر شديد نتيجة لما كانوا يعانونه من نظام الضرائب المعمول به آنذاك وقسوة جامعي الخراج حتى انصفهم عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد برفع الضرائب عن كاهلهم.
ابن رسته في الاعلاق النفيسة يصف البطائح بانها خزانة اهل البصرة يجتمع فيها الماء وينبت فيها القصب لمنافعهم ومنها سمكهم من الطري والمالح وفي نواصيها مزارع منها طعامهم.اشتهرت من سكان البطائح وسلالاتهم .
جرت محاولات لتجفيف الأهوار في العهد الأموي بدافع الزيادة في الخراج. ولم يقدر وكيل معاوية على التجفيف، ثم عجز الحجاج عنه لأنه الوليد بن عبد الملك استكثر التكاليف. وفي العهد العباسي أوان ثورة الزنج بالبصرة، حاول ولي العهد الموفق بالله تجفيفها، لتسهل مطاردة الثوار فيها. كذلك جرت محاولات التجفيف أوان السلطنتين البويهية والسلجوقية. فبسبب تمرد عمران بن شاهين عمد البويهيون إلى (سد أفواه الأنهار الداخلة في البطائح، فضاع فيها الزمان والأموال، وجاءت المدود، وبثق الحسن بن عمران بعض السدود). وأطرف ما في الأمر أن أهدى بختيار البويهي لابن شاهين مجموعة من الخيل، وربما لا يعلم، وهو الديلمي، أن خيل الأهوار قواربها وسفنها، لذا رد ابن شاهين الهدية مع عبارة: (لأن دوابي هذه السفن) .
الأهمية الاقتصادية:
تعتبر منطقة الاهوار الجنوبية في العراق من أكثر أقاليم المنطقة ثراء، فرغم التخلف والإهمال المتعمد لهذه المنطقة، ثقافياً، وصناعياً، اجتماعياً، فان أكواخ هذه المنطقة بهذه المنطقة، معسريها تشيد فوق بحيرات النفط الغنية جداً فمن المعلوم إن المنطقة بهذه الثروة العظمة...
في هذه المنطقة وحواليها يتفجر نفط العرق غزيراً في كل من حقل بزر كان في محافظة ميسان ، وحقل غربي القرنة ، وحقل الرملية الشمالي في البصرة، وحقل نهر عمر، وحقل اللحيس وكلاهما غرب البصرة، وحقل مجنون في حدود العمارة وغيرها ...
وتقول بعض المعلومات إن أخر برميل نفط في العالم سيتم أخراجه من هذه المنطقة ...
هذا إضافة إلى الغاز الطبيعي الذي تزخر به هذه المنطقة...
وتفيد المعلومات المؤكدة إن منطقة الاهوار الجنوبية تضم أهم احتياطي للبترول، والغاز، في العراق كله.
أما الثروة الزراعية التي تمتاز بها المنطقة الجنوبية خصوصاً أهوار الجنوب ، والمنطقة المحيطة بها، فهي التمور، حيث يشتهر العراق بهذا المحصول وجودته، ويزرع في البصرة، وحدها حوالي العشرين مليون نخلة، إلا إن هذا العدد تناقض منذ الثمانينات إلى أقل من النصف بسبب الحروب، وسياسة تجفيف الاهوار في الجنوب، وسياسة التصحير المتعمدة، والسياسة الزراعية المدمرة للزراعة في البلاد...
وتوجد في الجنوب وعلى حافات الأنهار، والاهوار أفضل أنواع النخيل في العلم، خصوصاً في البصرة والناصرية ولعدة سنوات كان التمر العراقي يغزو الأسواق العالمية في أوربا، وغيرها وكانت الهند، والباكستان وبلدان افريقية تستهلك كميات كبيرة من هذا الإنتاج كل عام، خصوصاً في الخمسينات والستينات كما تعد هذه المنطقة من أخصب الاراضي في العراق فضلاً عن توفر المياه وصلاحية المناخ لزراعة القمح، والرز، والشعير، والذرة البيضاء، والبطيخ الأحمر، والطماطة، والباقلاء، وغيرها ...
أما الثروة الحيوانية: الجاموس، والبقر، والأغنام، تعتبرها الاهوار البيئة الطبيعة لعيش الجاموس الذي لا يتيسر له العيش في غير هذه المنطقة، حتى إن المنطقة في الثمانينات كانت تضم عشرات الآلاف من هذه الثروة في منطقة الاهوار، حيث كانت الاهوار الجنوبية مأوى للملايين من الأسماك التي تتكاثر أيام الربيع، وتزداد إعدادها بشكل مثير في هذا الفصل، وتضم أفضل الأنواع في المنطقة والعالم ...
وتحتل الطيور موقعاً متقدماً في ثروة الاهوار حيث تعتبر غابات الاهوار من القصب، والبردي من أهم المناطق لتكاثر الطيور وسكانها، وهجرتها من مناطق العلم المختلفة كالمناطق الباردة مثل سيبريا، وشمال أوربا خصوصاً في أيام الربيع والصيف،وتضم الطيور في أهوار العراق أهم الفصائل من هذه الثروة العظيمة، التي فتك بها النظام العراقي، أو بددها